... لا زلت أذكر من هزيل أشباح الذكريات الدارسة ذلك الصباح الشتوي الساخن! بحاد الأحداث السياسية كيف ولجت مع أول دقائق بداية الدوام الرسمي إلى قاعة الانتظار الفسيحة في مكتب طيب الذكر والأخلاق والسيرة المرحوم سيدي يسلم بن أعمر شين حاملا خمسة أعداد من أول عدد لجريدة "الرفيق" سلمتها عند دخولي لأحد العاملين في سكرتيريا الاستقبال وأسلمت نفسى للنوم على إحدى تلك الكنبات الوثيرة التي أفتقر في المنزل إلى نعومة مثلها!، بعد ليلة كاملة بلا نوم قضيت أولها على الجهاز في التصحيح، ووسطها مع "عبادي" في "الماكيت" وآخرها في المطبعة حارسا دوري في الطباعة لأن واجب وقت غدنا -في إدارة تحرير ونشر الجريدة- هو أن تكون الجريدة -حالة سلمت من المصادرة- عند موزعي وكالة أخبار انواكشوط أول النهار، أما إن طالتها رصاصة من الخمس طائشات الهلامية المادة 11 فإنا لله وإنا إليه راجعون!.
انتبهت بعد ساعة على أحد موظفي المكتب يربت على منكبي بلطف قائلا : المدير يطلبكم.
ولجت إلى الداخل وأنا أنتظر بشغف كبير أن يسلمني المدير وصل الإذن بالنشر الذي يخول -وحده- يومها سحب أعداد الجريدة ال 495 الباقية وجوبا عند المطبعة الوطنية بموجب قانون الرقابة القبلية القاضي صريح مواد قانونه بأن لا تبرح أية جريدة مكانها ذاك -وقد زينت بأقصى طاقة محرريها من أناقة الحرف وروعة الإخراج ومن نكهات فنون دبلوماسية قول تحاول أبدا أن تمارس حقها في الإزعاح بطريقة غير مزعحة!- إلا بوصل لا يمنحه على تلك الأيام غير مدير الحريات العامة والشؤون السياسية بوزارة الداخلية والبريد والمواصلات .
لا زلت كذلك أذكر كيف بوجه طلق لست أدري لم أحسست فيه بعض مظاهر العتب أشار إلي المدير بالجلوس مواصلا قراءة وتقليب صفحات جريدة بين يديه لم أتردد لحظة في أنها بعض حروفي مزركشة بآخر إبداعات "عبادي" الإخراجية .. واصل المدير القراءة والتقليب عدة دقائق قبل أن يرفع إلى وجهه مبتسما ابتسامة خلتها بلون العتب! :
- لست أدري لماذا وفي عددكم الأول تجازفون إلى هذه الدرجة، خصوصا أنك بالذات تعلم مدى تعب سنة كاملة قضيتموها في التردد على هذه الإدارة متابعين إجراءات ومواعيد الترخيص .. أتفهم خطكم التحريري الذي توضحه افتتاحية عددكم الأول هذا ولكنني -واسمح لي- لم أفهم ضرورة كل هذا التهور وفي العدد الأول!.
- ربما لا خيار لدينا سيادة المدير بعدما رجحنا -وقد تعذر علينا الجمع!- السير في أحد فسطاطي صحافتنا الذي رأيناه الأنسب لنا، أعني بعدما رجحنا طريق أن لا نكتب لكي نعيش بل أن نعيش لكي نكتب!.
- دائما توجد هناك نقطة وسط يمكنكم نزولها إن أردتم لكنكم لا تودون حتى رؤيتها (يضحك في وقار قبل أن يردف) : ما العيب في أن يكتب الصحفي من أجل أن يعيش ما لم يذهب بعيدا، لماذا تتصرفون دائما وكأنه لا خيار متاح لديكم إلا بين الخوف والجوع! كما يعنون أحد زملائكم (خلته عنى زاوية الزميل محمد نعمة عمر : إذا كتبت أموت من الخوف وإذا سكت أموت من الجوع) ؟!. عموما، تفضل بالانتظار في قاعة الاستقبال ريثما أعرف رأي هيئة الرقابة.
خرجت من مكتب الرجل ممزقا بين اليأس من ترخيص العدد والرجاء أن يفك الله أسره لكنني في قرارة نفسي كنت نصف منزعج ونصف مرتاح!، منزعج من احتمال مصادرة العدد البكر ومرتاح لكوني من كل وجداني كنت راضيا عما فعلت وعما قلت مكلفا ما كلف! وبعد ساعة مرت كشهر خرج من المكتب أخيرا أحد عمال السكرتيريا وهو يقول ملوحا بوصل في يده : جريدة الرفيق جريدة الرفيق فعرفت أن أمر الله قد نزل بالإفراج عن العدد والحمد لله رب العالمين .. بعدها بسنة من المتاعب أدركت أنه لا طاقة للضعيف منفردا على مواصلة السير في الوعرة طرق مهنة المتاعب تلك ما لم يكن لديه استعداد لمقايضة بعض حبره ببعض حقوقه وما لم يقرر يوما أن يكتب لكي يعيش، فقررت الاحتفاظ من حقوق الصحفي بحقي في ملكية وصل الإعتراف وهجرة كل طقوس ويوميات النادي الصحفي وكل مظاهر امتهانه! غير حقي في أن أعيش لكي أكتب!.
تذكرت هذه القصة -والشيء بالشيء يذكر- بعدما قررت التسلل بطريقة حسبتها ذكية إلى بريد الموقر والي ولاية گيدي ماغه القادم حديثا من إدارة الحريات العامة ليس لغرض إجرامي يعاقبه القانون معاذ الله ولكن لكي أرسل منه الرسالة التالية لصاحب الفخامة رئيس الجمهورية السيد محمد بن الشيخ الغزواني علما بأن نص هذه الرسالة هو لزميلي المفتش "محمذن فال قاظينا" وذلك بعدما وجدته يمثلني زيادة على كونه يغنيني عن تدبيج رسالة جديدة كانت ستحمل نفس المضمون ظنا وستعجز عن أسلوب واعتدال رسالة المفتش يقينا! وكلي أمل في أن لا يكون في تصرفي هذا جريمة سبرانية يمكن تكييفها كقرصنة لبريد وال وأن يشفع لي أنني إنما لجأت إلى هذه الطريقة سعيا إلى إيصال هذه الرسالة لعلمي بأن بريد السادة الولاة موصل بسلام لما وصله إلى بريد صاحب الفخامة! :
---------------------
*( إلى فخامة رئيس الجمهورية،*
*تحيةً تليقُ بمقامكم السامي،*
*فخامة الرئيس* :
حين تتقاطعُ ظلالُ الزمن مع صدى الواجب، وحين تتكئ الدولة على صروحها الذهبية لتؤثث مشروعها الجمهوري، يبقى مفتش التعليم تلك اليد الصامتة التي تعيد ترتيب الحروف على صفحات الانبعاث، في دهاليز لا تصلها أضواء المكافآت، ولا تطرق أبوابها أبواق الامتيازات.
*فخامة الرئيس،* :
ليس في نيتنا أن تكون هذه الرسالة نشيدًا للعويل خلف لعاعةٍ لا تُسمن ولا تُغني من جوع، ولا عزفًا نشازًا خارج سمفونية الإصلاح التعليمي، لكنها همسةٌ لإسماع نبضٍ مكتوم، يتردد في ممرات وزارة التربية وإصلاح النظام التعليمي، كهمسٍ مهنيٍّ يوشك أن ينكسر.
*فخامة الرئيس،* :
في زمنٍ تُرفع فيه حناجر التحفيز على أطراف قطاع التربية، تظلُّ علاوةُ المفتشين محنطةً كتمثالٍ شمعيٍّ في متحف النسيان، بينما تصعد درجات الإنصاف لأسلاكٍ أخرى، أقلَّ مشقةً، وأبعدَ عن النَّصَب.
*فخامة الرئيس،*:
أيُّ عقلٍ راشدٍ سيقنعُ معلّمًا بالارتحال من سلكٍ حلوبٍ تدرّ عليه الامتيازات، إلى سلكٍ غارزٍ لا يجد من المكافأة إلا ما يئد الطموح ؟، أليس في ذلك إشارةٌ ضمنيةٌ لإغلاق باب الكفاءات، وتحنيط سلك المفتشين تحت شعاراتٍ باهتة ؟!
*فخامة الرئيس،* :
إن سلكَ المفتشين ليس مجرد جهازٍ للرقابة، بل هو منظومةُ قيادةٍ لا تُقاس مهامه بالمسطرة، بل بالبوصلة: بوصلته الفكرية، ووظيفته التوجيهية، وروحه الإصلاحية.
والأمم التي تبني تعليمها على أعمدةٍ متينة، لا تُقصي من يمسك الميزان، ولا تُهمش من يُعدّل الانحراف قبل وقوعه.
*فخامة الرئيس،* :
إننا نخاطبكم لا من منابر الاحتجاج، بل من عتبة الأمل. وإنّا لنرجو أن لا تكون السياسة التربوية قد بدأت تُفرّق بين من يُدرّس ومن يُقوّم، بين من يشرح النص ومن يُعيد تأويله.
وأن يكون في ميزان عدالتكم ما يُعيد لسلك المفتشين روحه، ويبعث فيه رُقيّه حياة، تُعيد للوظيفة معناها، وللمسؤولية وزنها.
*وختاما تفضلوا، فخامة الرئيس، بقبول فائق الشكر والتقدير والاحترام.*
*المفتش: محمذن فال قاظين*).
---------------------
- المفتش : محمد طالب محمد المختار ناجم (تيبه).
- مفتش قطاع مقاطعة غابو.
- المدير الناشر لجريدة "الرفيق".