من حق أي حزب أن يُنظم حملة انتساب، في الوقت الذي يشاء، لكن حملة الحزب الحاكم رافقها ضغط واسع من قِبل بعض الأُطر والوجهاء التقليديين، لدفع آلاف الناس للانتساب لحزب الإتحاد من أجل الجمهورية، وصاحب ذلك احتجاز آلاف بطاقات التعريف على عموم التراب الوطني، مما دفع الكثيرين للانتساب لهذا الحزب، رغم عدم اهتمامهم السياسي أًصلاً.
لكن مصالح الواقفين خلفهم، كانت السبب الرئيسي ـ حسب ما يبدو ـ للتسجيل في لوائح الحزب المذكور، وطبعًا وبالمشاهدة، سُمح بصورة سلسة، للغير بالانتساب بدل فلان أو علان، كما سُمح التسجيل عن بُعد، ولعل ما أُعلن من شروط صارمة، تم تجاوز أغلبه دون صعوبة تذكر، ولا يُستعبد أن يتبع ذلك تجاوزات أخرى عند تشكيل الوحدات وغيرها من هيئات الحزب القاعدية، فما فوق، ليتأكد باختصار أن الحزب مثل بؤرة المصالح بالدرجة الأولى والتواجد فيه بكثافة، لحماية تلك المصالح الضيقة غالبًا، قبل الاقتناع والتفهم والاستيعاب للمبادئ المروج لها.
هذا من جهة، ومن جهة ثانية، أشرت هذه الحملة لمرحلة قادمة، يهيئ لها الرئيس الحالي، أٌقل ما يطبعها الغموض المطلق.
فالتصريحات الخافتة، التي تجزم بعدم ترشحه للمرة الثالثة، خرقًا للدستور الحالي، تقطعها إشارات أُخرى.
مثل التوقف لتحية المطالبين بالمأمورية الثالثة، واستقبال زعيمهم بالقصر الرمادي، كل ذلك لا يمكن أن يكون فارغًا من التنويه المقصود المتعمد بمشروع تلك المأمورية المريبة.
فهل حملة الانتساب ترتيب فحسب للبيت الداخلي وتهيئة لخروج آمن، أم الخطة في اتجاه آخر أكثر مغامرة وتهورًا؟
ولا أفهم سر التركيز على الحزب الحاكم، رغم تصريحات الرئيس محمد ولد عبد العزيز في وقت سابق، في النعمة، عاصمة الحوض الشرقي.
حيث صرَّحَ أنَّ الأحزاب الحاكمة بعد سقوط الرؤساء، تتطاير كالريش في كل اتجاه، وخصوصًا أن تاريخنا السياسي القريب يؤكد هذا المفهوم ويُعضده، على وجه اليقين وبالواقع الملموس.
فأين حزب الشعب بعد الانقلاب على ولد داداه رحمه الله، وأين الجمهوري بعد الانقلاب على ولد الطايع، وأين زخم حزب عادل بعد تنحية ولد الشيخ عبد الله، وكذلك سيحل يومًا ما بالحزب الحالي وغيره على هذا النسق المشهود المتكرر.
فكلما ذهب المتغلب سَهُلَ حتى نسيان اسم حزبه، الذي كان ملء السمع والبصر، ليحل محله اسم آخر وجو حزبي آخر، مؤقت طبعًا، إلى حين من الزمن وسير الأحداث.
لكن عملية الانتساب للحزب الحاكم الحالي، كانت فرصة لحلب بعض جيوب رجال الأعمال الكبار، ودفع كل منتسب لمائتي أوقية، بالوحدة الحسابية القديمة، مما قد يسمح بجمع أكثر من مليار أوقية على الأقل.
ولعل هذه الحملة، أكدت على النسق المعهود، أن لعبة المصالح الضيقة، ما زالت هي السرك المفضل والجوقة المشاعة، بدل السياسة المبدئية الجادة العفوية.
فالأُطُر يعملون، ما يتوهمون أنه يُكرس مصالحهم، رغم قناعتهم بعدم خلو الأسلوب من الضغط والدفع والتصنع اللافت، وعندما يتبدل الجو، يُبدلون جلودهم وألسنتهم، بمقولات أخرى وتوجهات أخرى مخالفة.
إن أي وطني جاد يستحى أحيانًا، من مجرد الاقتراب من باب أي حزب حاكم، ودون تمييز.
لأن السيمفونية معروفة ومتلونة دون حياء، حسب الطقس السياسي العابر، "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة، إذا لم تستحِ فاصنع ما شئتَ".
وفي هذا الجو تتركز السلطة في يد ثلة قليلة على حساب الأغلبية، وتدور المنافع في قنوات ضيقة في دائرة النفوذ والتأثير فحسب، فلا يكاد يتنفس إلا المقربون من النظام، أما من سواهم، فحظهم التلاعب والإهمال والاستهداف أحيانًا، إن تجرأوا باستمرار على البوح بالصوت المخالف والتغريد خارج السرب.
ورغم ما يبعثه النقاش بين السلطة والمنتدى من أمل التقارب والحوار، حول إجراء انتخابات شفافة أو قريبٌ من ذلك، إلا أنَّ كل التجارب السابقة للأسف في هذا السياق، تدل على عدم الرغبة في التنازل النسبي والاحتفاظ بنقاط التقاء جاد منعش.
إن بلدنا بحاجة لثورة دون عنف، وتغييرات جذرية تُشرك الجميع، وترفع منسوب العدالة، على حساب المحسوبية والخصوصية المجحفة المميزة.
وما لم نغيِّر أسلوب التعامل مع الشأن العام ونعمد إلى طريقة مُثلى، لحسن تداول وتقاسم وتسيير الثروة العمومية، فلن نهتدي إلى بداية الطريق الصحيح الجامع.
كما أن موريتانيا لا صلاح لها إلا بإسلامها والتشبث بقيم التسامح والتعايش والتعاون، تجسيدًا للحمة والوحدة الوطنية، مصداقًا لقولة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله".
انتسبوا أو لا تنتسبوا، حسب ما يحلو لكم.
فالدعاية والترويج لا يكفيان البتة، وإنما إرساء الأمر العمومي، على الصدق والعملية والعدل، هو وحده المخرج وهو بوابة الفرج بإذن الله، وما سوى ذلك، مجرد تلاعب بالوطن والمواطنين، وستظل الأحزاب المبنية على منافع السلطة دون قناعات مبدئية، مجرد فرصة مؤقتة وظل زائل حتمًا، لا يخدم مشروعًا وطنيًا طويل الأمد واسع النفع.
لكن نخبتنا في أغلبها للأسف وزعماؤنا التقليديون الأنانيون، حسب المعهود، يُفضِّلون خداع الذات والمجتمع والوطن، في سبيل منافع عابرة قصيرة النفس.
ومهما يكن النقص والقصور، فإن ما يجري من بحث ولقاء مع طرف ظاهر من المعارضة، أمر يستحق التنويه.
فبداية التصحيح، الحوار ومحاولة التفاهم والتصالح، عسى أن نهتدي يومًا ما، إلى خارطة طريق منقذ مخلِّص بإذن الله.