كان من عبادة الرّسول الله صلى الله عليه وسلم المواظب عليها، أنه إذا حلّ شهر رمضان المُبارك يحكي لصحابته رضوان الله عليهم عن شهر القرآن والصيام، شهر رمضان فكان يقول صلى الله عليه وسلم:" أتاكُم رَمضانُ شَهرٌ مبارَك، فرَضَ اللَّهُ عزَّ وجَلَّ عليكُم صيامَه، تُفَتَّحُ فيهِ أبوابُ السَّماءِ، وتغَلَّقُ فيهِ أبوابُ الجحيمِ، وتُغَلُّ فيهِ مَرَدَةُ الشَّياطينِ، للَّهِ فيهِ ليلةٌ خيرٌ من ألفِ شَهرٍ، مَن حُرِمَ خيرَها فقد حُرِمَ".
واليوم تستعدّ الأمّة الإسلاميّة لاستقبال النعمة العظيمة التي أنعم الله عزّ وجل بها على عباده الصائمين، وخصّ فيها المسلمين بخصائص من النعم والفضل دون غيرهم من الأفراد والأمم، إنها نعم تتنزّل القرآن في شهر الصيام الذي فرض الله صيامه بالقرآن، الحامل لأنواع البركات والغفران، وصنوف الرحمات والإحسان ، والمحظوظ حقّاً من وفقه الله لتحضر نفسه وتهيّئتها لحُسن استقباله، والتعرض لصنوف نفحاته، التي يخص بها الصائمين من عباده،إنها نعم الله المباركة التي تتنزل على عباده في شهر القرآن شهر الصيام .
حكم ثلاثة يعطيها شهر القرآن شهر رمضان المبارك للأمة وللصائمين، خصال وحكم تلعب الأدوار المحوريّة على تغيير الأمّة الإسلاميّة، فالصيام والقيام في رمضان يُزكّي ويُنقّي النّفوس من الشّوائب، ويُوحّد صفوف المسلمين في الصيام وعلى الموائد، وفي المساجد، وهو مع ذلك يُرّبي النّفوس البشريّة ويكبح جماحها، ويأخذ بيد الصائمين القائمين القانتين في مدارج السالكين للوصول بهم إلى أعلى علين في مراتب مرضات رب العالمين.
إخوتي الصائمين القائمين، المؤمن العاقل الحكيم هو من يحسن استقبال هذا الشّهر العظيم، شهر القرآن والصيام، واستطاع فيه أن يتزوّد من صنوف الخيرات، ولتحصيل ذلك يتطلب الأمر من المسلم أن يقوم بعمليّة تطوير شاملة في حياته وعبادته، حتى يستطيع أن يرتقي بإيمانه وروحه وسلوكه، وذلك يتطلب ابتداء:
أولا: تحصيل النِيّة الخالصة الصَّادقة بصيام الشَّهر إيماناً واحتساباً للأجر عند الله سبحانه، والله عز وجل لا يقبل من العمل إلا مبتغي به وجهه، وهو أغنى الشركاء عن الشرك"وقد قال {من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركه وشريكه} والشرك هو صرف شيء من ما يتقرب به لله عز وجل لغير الله، وقد قال تعالى:{وإن الشرك لظلم عظيم}، وقال:{ومن يشرك بالله فكأن ما خر من السماء فتخطف الطير أو تهوى به الريح في مكان سحيق} .
ثانيا: الاستعانة بالله عزّ وجل على بلوغ شهر رمضان المبارك، وطلب الإعانة والهمّة من الله تعالى،قال:{ومن يتوكل على الله فهو حسبه}، وقال:{والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا}، وقال:{ والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم}.
ثالثا: تعلُّم أحكام الصيام والقيام في رمضان وكلّ ما يتعلّق بهذا الشّهر الفضيل وذلك لأن الله عز وجل لا يعبد إلا بما شرع، وعمل الجاهل مردود، وقد فرض الله العلم قبل العمل، فقال جل وعلا:{فعلم أنه لاإله إلا الله واستغفر لذنبك}، وقال صلى الله عليه وسلم:"طلب العلم فريضة على كل مسلم".
رابعا: إعطاء الحقوق، ورد المظالم، والتّسامح، والعفو عن النّاس قبل ابتداء الشّهر الفضيل، وبرّ الوالدين والإحسان إليهما، وطلب العفو منهما عن أيّ تقصيرٍ اتجاههما، وصلة الرّحم مع الأقارب، ردّ الحقوق إلى أصحابها من ديونٍ وأماناتٍ .
رابعا: التخلّص من تضيع وضياع الأوقات، والتوبة من ممارسة العادات، فهي التي تفسد العبادات، والابتعاد عن الشحناء، وسلوك البغضاء، وأنواع الجدال، وترك كل صنوف المُشاحنات والخصومات، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ليس الصيام من الأكل والشرب، إنما الصيام من اللغو والرفث، فإن سابك أحد أو جهل عليك، فقل: إني صائم، إني صائم".
خامسا: التوجه إلى الله عز وجل بالتَّوبة النَّصوح والإقبال على الله بالاستغفار والنَّدم على ما انقضى من العُمر في الذّنوب والمعاصي والبُعد عن طريق الله، والله يقول:{يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا}، وكل ابن آدم خطاء وخير الخطاءين التوابون، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، قال الله تبارك وتعالى:"يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة" رواه الترمذي، وصححه ابن القيم، وحسنه الألباني.
سادسا: عقد العزم على أنْ يكون رمضان فرصةً للتّغيير نحو الأفضل، وتحسين الذَّات، وتصحيح الأخطاء، والاستمراريّة على ذلك بعد رمضان؛ فلا يكون رمضان فترةً مؤقّتةً وإنّما أسلوب عمل ومنهج حياة، فيما هو مقبل من أيام الحياة.
سابعا: الاجتهاد في الإكثار من الأعمال الصّالحة، وتحضير النّفس لأعمال البرّ،قال صلى الله عليه وسلم"لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تفرغ من دلوك في إناء أخيك"،وقال:"وفي كل كبد رطبة حبة أجر"، وقال:"والتق النار ولو بشق تمرة"، وأفضل القربات عند الله في شهر الصيام والقيام: قراءة القرآن، والتصدق بأنواع الصّدقات، وإطعام الطعام وعبادة الاعتكاف، عن سلمان رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر يوم من شعبان، فقال:" أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم، شهر مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، جهل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعا، من تقرب فيه بخصلة من الخير، كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة، كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه،، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزداد غيه رزق المؤمن، من فطر فيه صائما كان مغفرة لذنوبه، وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء" صحيح ابن خزيمة .
ثامنا: مُصاحبة الأخيار الذين يُعينون على العمل الصّالح، ويهدون لأحسن القربات، قال تعالى:{ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ.مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}.
تاسعا: قضاء الأيّام السّابقة من رمضان قال تعالى:{ فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} فإذا كانت الأيام ألازم قضاؤها الآن من رمضان سابق غير رمضان القريب، فإنه يجب مع القضاء إطعام مسكين عن كل يوم؛ لأجل تأخير القضاء إذا كان أخره من دون عذر شرعي، بل إنما هو التساهل حتى جاء رمضان آخر، فعليه القضاء مع إطعام مسكين عن كل يوم نصف صاع، من قوت البلد، من تمر أو غيره أو رز أو بر، أما إذا كان أخره لعذر شرعي كالمرض أو الحمل بالنسبة للمرأة، أو إرضاع، ولم يتيسر لها الإطعام فإنها تقضي فقط، وليس عليها إطعام وإنما في هذه الحالة يكفيها القضاء.
ثامنا: انتظار وتحرّي رؤية هلال رمضان المبارك، فإذا ثبت هلال رمضان فيُسنّ للعبد أن يدعوا كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوا: فقد كانَ رسولُ اللهِ وسلم إذا رأى الهلالَ رمضان دعا وقالَ:"اللهُ أكبر، اللَّهمَّ أَهِلَّهُ علينا بالأمنِ والإيمانِ، والسَّلامةِ والإسلامِ، والتَّوفيقِ لما تحبُّ، وَترضَى، ربُّنا وربُّكَ اللهُ)، والله جل وعلى يقول:{فمن شع دمكم الشهر فاليصمه}، وقال صلى الله عليه وسلم:"إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فقدروا له".
تاسعا: استشعار أهميّة شهر رمضان المُبارك ورحماته وغفرانه، والأجر الذي وعد الله عزّ وجل به الصّائمين القائمين، قال صلى الله عليه وسلم:" إذا جاء شعر رمضان، فتخت أبواب الجنة، وأغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين"، وكان أبو هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أظلكم شهركم هذا بمحلوف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما مر بالمسلمين شهر خير لهم منه، ولا بالمنافقين شهر شر لهم منه- بمحلوف رسول الله صلى الله عليه وسلم- ليكتب أجره ونوافله قبل أن يدخله، ويكتب إصره وشقاءه قبل أن يدخله، وذلك أن المؤمن يغد فيه القوة من النفقة للعبادة، ويغد فيه المنافق اتباع غفلات المؤمنين، واتباع عوراتهم، فغنم يغنمه المؤمن".
عاشرا: الحذر من صيام آخر يومين من شهر شعبان كما أوصى الرّسول عليه الصّلاة والسّلام، قال سماك: دخلت على عكرمة في اليوم الذي يشك فيه من رمضان- وهو يأكل- فقال: ادن، فكل. فقلت: إني صائم، قال: والله لتدنون. قلت: فحدثني. قال: ثنا ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" لا تستقبلوا الشهر استقبالا، صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن حال بينك وبين منظره سحاب أو قترة، فكلوا العدة ثلاثين" .
الحادي عشر: وضع جدول أو برنامجٍ لاستغلال الوقت في رمضان، وتحديد الأولويات، وعدم الإسراف في المُباحات، كالسّهر مع الأصدقاء، ومُشاهدة التّلفاز، وغيرها من الأمور. الفرح والاستبشار بقدوم الشّهر الكريم الذي تُستجاب فيه الدّعوات كما فعل الصّحابة، وتجنّب التّذمّر وخاصّةً إذا جاء رمضان في فترة الصّيف والحرّ.
الثاني عشر: تجهيز بعض الأدعية المُطلقة والدينيّة وعقد العزم على تكرارها طوال الشّهر، فقد كان بعض الصّحابة والسّلف الصّالح يُحدّدون دعواتهم قبل مجيء رمضان، ويُصرّون على دعائها طوال الشّهر الفضيل فلا يأتي رمضان من العام التّالي إلّا وقد استُجيب دُعاءهم.
الثالث عشر: تحديد عمل خيريّ واحد على الأقلّ تواظب عليه طوال الشّهر، وتُخصّص له من ميزانيّتك الخاصّة مبلغاً من المال، أو من وقتك كتوزيع الدروس النّافعة، أو تفطير الصّائمين، أو تنظيف المساجد وغيرها من أفعال البرّ والخير.
الرابع عشر: أفكار في رمضان تتنوّع العبادات والطّاعات والأعمال الصّالحة التي يتقرّب العبد فيها لله عزّ وجل، طمعاً في كسب مرضاته، وبلوغ ثوابه، ومن فضل الله علينا أنّه يُضاعف ثواب وأجر العمل الصّالح في رمضان، هذه بعض الأفكار العمليّة التي تخدم المجتمع في شهر رمضان المُبارك، وتُبلّغ المسلم جزيل الثّواب.
الخامس عشر: تقديم عمل اجتماعيّ: دعا الرّسول عليه الصّلاة والسّلام إلى مُساعدة النّاس، وتفريج كربهم، وإعانتهم معنويّاً وماديّاً، قال عليه الصّلاة والسّلام: (أحَبُّ الناسِ إلى اللهِ أنْفعُهُمْ، وأَحَبُّ الأعمالِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ سُرُورٌ تُدخِلُهُ على مُسلِمٍ، أو تَكشِفُ عنهُ كُربةً، أو تَقضِيَ عنهُ دَيْنًا، أو تَطرُدَ عنهُ جُوعاً ولَأَنْ أمْشِيَ مع أخِي المسلمِ في حاجةٍ أحَبُّ إليَّ من أنْ أعتكِفَ في المسجدِ شهْراً، ومَنْ كفَّ غضَبَهُ، سَتَرَ اللهُ عوْرَتَهُ، ومَنْ كظَمَ غيْظاً، ولوْ شاءَ أنْ يُمضِيَهُ أمْضاهُ ، مَلأَ اللهُ قلْبَهُ رضِىَ يومَ القيامةِ، ومَنْ مَشَى مع أخيهِ المسلمِ في حاجَتِه حتى يُثْبِتَها لهُ، أثْبتَ اللهُ تعالَى قدَمِه يومَ تَزِلُّ الأقْدامُ، وإنَّ سُوءَ الخُلُقِ لَيُفسِدُ العملَ، كَما يُفسِدُ الخَلُّ العَسَلَ.